فصل: تفسير الآية رقم (58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

تَأْوِيلُهُ

يَعْنِي‏:‏ وَالَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِي وَكَذَّبُوا رُسُلِي‏.‏ وَآيَاتُ اللَّهِ‏:‏ حُجَجُهُ وَأَدِلَّتُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْأَعْلَامِ وَالشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى صِدْقِهَا فِيمَا أَنْبَأَتْ عَنْ رَبِّهَا‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ، التَّغْطِيَةُ عَلَى الشَّيْءِ‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا دُونَ غَيْرِهِمْ، الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَدًا إِلَى غَيْرِ أَمَدٍ وَلَا نِهَايَةٍ‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ عُقْبَةُ بْنُ سِنَانٍ الْبَصَرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ، قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ- وَحَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ- وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَوْنٍ، قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ- عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنَّ أَقْوَامًا أَصَابَتْهُمَ النَّارُ بِخَطَايَاهُمْ أَوْ بِذُنُوبِهِمْ، فَأَمَاتَتْهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ وَلَدَ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ يَعْقُوبُ يُدْعَى‏"‏ إِسْرَائِيلُ ‏"‏، بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ وَصَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏ وَ‏"‏ إِيلُ ‏"‏هُوَ اللَّهُ، وَ‏"‏ إِسْرَا‏"‏ هُوَ الْعَبْدُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏جِبْرِيل‏"‏ بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ‏.‏ وَكَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِكَ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِيلُ ‏"‏، اللَّهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ‏.‏

وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أَحْبَارَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَسَبَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ إِلَى يَعْقُوبَ، كَمَا نَسَبَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ إِلَى آدَمَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 31‏]‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مِنَ الْآيِ الَّتِي ذَكَّرَهُمْ فِيهَا نِعَمَهُ- وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مَا أَنْزَلَ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ- أَنَّ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا أَنْبَاءُ أَسْلَافِهِمْ، وَأَخْبَارُ أَوَائِلِهِمْ، وَقِصَصُ الْأُمُورِ الَّتِي هُمْ بِعِلْمِهَا مَخْصُوصُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، إِلَّا لِمَنِ اقْتَبَسَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ‏.‏ فَعَرَّفَهُمْ بِإِطْلَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَى عِلْمِهَا- مَعَ بُعْدِ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَقِلَّةِ مُزَاوَلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرَاسَةَ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَنْبَاءُ ذَلِكَ- أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِلْ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَتَنْزِيلٍ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَيْهِ- لِأَنَّهُمْ مِنْ عِلْمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِمَحَلٍّ لَيْسَ بِهِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرُهُمْ، فَلِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ خِطَابَهُمْ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لِلْأَحْبَارِ مَنْ يَهُودَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَنِعْمَتُهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ جَلَّ ذِكْرُهُ، اصْطِفَاؤُهُ مِنْهُمَ الرُّسُلَ، وَإِنْزَالُهُ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، وَاسْتِنْقَاذُهُ إِيَّاهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ مِنْ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، إِلَى التَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَفْجِيرِ عُيُونِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ، وَإِطْعَامِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى‏.‏ فَأَمَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَعْقَابَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَا سَلَفَ مِنْهُ إِلَى آبَائِهِمْ عَلَى ذِكْرٍ، وَأَنْ لَا يَنْسَوْا صَنِيعَهُ إِلَى أَسْلَافِهِمْ وَآبَائِهِمْ، فَيَحِلُّ بِهِمْ مِنَ النِّقَمِ مَا أَحَلَّ بِمَنْ نَسِيَ نِعَمَهُ عِنْدَهُ مِنْهُمْ وَكَفْرَهَا، وَجَحَدَ صَنَائِعَهُ عِنْدَهُ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏، أَيْ آلَائِي عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ آبَائِكُمْ، لِمَا كَانَ نَجَّاهُمْ بِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ‏}‏، قَالَ‏:‏ نِعْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏، يَعْنِي نِعْمَتَهُ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِيمَا سَمَّى وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ‏:‏ فَجَّرَ لَهُمُ الْحَجَرَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْجَاهُمْ مِنْ عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ نِعَمُهُ عَامَّةً، وَلَا نِعْمَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالنِّعَمُ بَعْدُ تَبَعٌ لَهَا، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحُجُرَاتِ‏:‏ 17‏]‏

وَتَذْكِيرُ اللَّهِ الَّذِينَ ذَكَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ نِعَمِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظِيرُ تَذْكِيرِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَسْلَافَهُمْ عَلَى عَهْدِهِ، الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 20‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا فِيمَا مَضَى- عَنْ مَعْنَى الْعَهْدِ- مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ‏.‏ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ عَهْدُ اللَّهِ وَوَصِيَّتُهُ الَّتِي أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ، أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَسُولٌ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏

‏"‏ أَوْفِ بِعَهْدِكُمْ ‏"‏‏:‏ وَعَهْدُهُ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 12‏]‏، وَكَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَكَمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي‏}‏ الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِذَا جَاءَكُمْ، ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، أَيْ أُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ عَلَيْهِ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ، بِوَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَحْدَاثِكُمْ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ، دِينُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، يَعْنِي الْجَنَّةَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏‏:‏ أَمَّا ‏{‏أَوْفُوا بِعَهْدِي‏}‏، فَمَا عَهِدْتُ إِلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏.‏ وَأَمَّا ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ فَالْجَنَّةُ، عَهِدْتُ إِلَيْكُمْ أَنَّكُمْ إِنْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَتِي أَدْخَلْتُكُمُ الْجَنَّةَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذَلِكَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏}‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 12‏]‏‏.‏ فَهَذَا عَهْدُ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ عَهْدُ اللَّهِ فِينَا، فَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِ اللَّهِ وَفَى اللَّهُ لَهُ بِعَهْدِهِ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَوْفُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي غَيْرِهِ، ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَرْضَ عَنْكُمْ وَأُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَوْفُوا بِأَمْرِي أُوفِ بِالَّذِي وَعَدْتُكُمْ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 111‏]‏، قَالَ‏:‏ هَذَا عَهْدُهُ الَّذِي عَهِدَهُ لَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏، وَإِيَّايَ فَاخْشَوْا- وَاتَّقُوا أَيُّهَا الْمُضَيِّعُونَ عَهْدِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمُكَذِّبُونَ رَسُولِيَ الَّذِي أَخَذْتُ مِيثَاقَكُمْ- فِيمَا أَنْزَلْتُ مِنَ الْكُتُبِ عَلَى أَنْبِيَائِي- أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَتَتَّبِعُوهُ- أَنْ أُحِلَّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِي، إِنْ لَمْ تُنِيبُوا وَتَتُوبُوا إِلَيَّ بِاتِّبَاعِهِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا أَنْزَلْتُ إِلَيْهِ، مَا أَحْلَلْتُ بِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَكَذَّبَ رُسُلِي مِنْ أَسْلَافِكُمْ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏، أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلْتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقَمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ، مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَاخْشَوْنِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِيَّايَ فَاخْشَوْنِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏ آمِنُوا ‏"‏، صَدِّقُوا، كَمَا قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ قَبْلُ‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِمَا أَنْزَلْتُ‏}‏ مَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏}‏، أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّوْرَاةِ‏.‏ فَأَمَرَهُمْ بِالتَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ، وَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ فِي تَصْدِيقِهِمْ بِالْقُرْآنِ تَصْدِيقًا مِنْهُمْ لِلتَّوْرَاةِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ، نَظِيرُ الَّذِي مِنْ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَفِي تَصْدِيقِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ تَصْدِيقٌ مِنْهُمْ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَفِي تَكْذِيبِهِمْ بِهِ تَكْذِيبٌ مِنْهُمْ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏مُصَدِّقًا ‏"‏، قَطَعَ مِنَ الْهَاءِ الْمَتْرُوكَةِ فِي‏"‏ أَنْزَلْتُهُ ‏"‏مِنْ ذِكْر‏"‏ مَا ‏"‏‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ وَآمِنُوا بِالَّذِي أَنْزَلْتُهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أَيُّهَا الْيَهُودُ، وَالَّذِي مَعَهُمْ‏:‏ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا أَنْزَلْتُ الْقُرْآنَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ كَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِجَمِيعٍ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏كَافِر‏"‏ وَاحِدٌ‏؟‏ وَهَلْ نُجِيزُ- إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا- أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ‏:‏ ‏"‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ رَجُلٍ قَامَ‏"‏‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّمَا يَجُوزُ تَوْحِيدُ مَا أُضِيفَ لَهُ ‏"‏أَفْعَلُ ‏"‏، وَهُوَ خَبَرٌ لِجَمِيعٍ إِذَا كَانَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِن‏"‏ فِعْلٍ وَيَفْعَلُ ‏"‏، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَنِ الْمُرَادِ مَعَهُ الْمَحْذُوفَ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ ‏"‏مَنْ ‏"‏، وَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَدَاءِ عَنْ مَعْنَى مَا كَانَ يُؤَدِّي عَنْه‏"‏ مَنْ ‏"‏مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهُوَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ‏.‏ أَلَّا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ‏:‏ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ‏.‏‏"‏ فَمَنْ ‏"‏بِمَعْنَى جَمِيعٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ تَصَرُّفَ الْأَسْمَاءِ لِلتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ‏.‏ فَإِذَا أُقِيمَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِن‏"‏ فِعْلٍ وَيَفْعَلُ ‏"‏مُقَامَهُ، جَرَى وَهُوَ مُوَحِّدٌ مَجْرَاهُ فِي الْأَدَاءِ عَمَّا كَانَ يُؤَدِّي عَنْه‏"‏ مَنْ ‏"‏مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ، كَقَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏ الْجَيْشُ مُنْهَزِمٌ ‏"‏، ‏"‏وَالْجُنْدُ مُقْبِلٌ ‏"‏، فَتُوَحِّدُ الْفِعْلَ لِتَوْحِيدِ لَفْظِ الْجَيْشِ وَالْجُنْدِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏ الْجَيْشُ رَجُلٌ، وَالْجُنْدُ غُلَامٌ ‏"‏، حَتَّى تَقُولَ‏:‏ ‏"‏الْجُنْدُ غِلْمَانٌ وَالْجَيْشُ رِجَالٌ ‏"‏‏.‏ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ عَدَدِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُشْتَقَّةٍ مِن‏"‏ فِعْلٍ وَيَفْعَلُ ‏"‏، لَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ *** وَإِذَا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ

فَوَحَّدَ مَرَّةً عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ نِيَّةِ ‏"‏مَنْ ‏"‏، وَإِقَامَةِ الظَّاهِرِ مِنَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ مُشْتَقٌّ مِن‏"‏ فِعْلٍ وَيَفْعَلُ ‏"‏ مَقَامَهُ، وَجَمَعَ أُخْرَى عَلَى الْإِخْرَاجِ عَلَى عَدَدِ أَسْمَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ، وَلَوْ وَحَّدَ حَيْثُ جَمَعَ، أَوْ جَمَعَ حَيْثُ وَحَّدَ، كَانَ صَوَابًا جَائِزًا‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ يَا مَعْشَرَ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، صَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ كِتَابَكُمْ، وَالَّذِي عِنْدَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، الْمَعْهُودِ إِلَيْكُمْ فِيهِمَا أَنَّهُ رَسُولِي وَنَبِيِّي الْمَبْعُوثُ بِالْحَقِّ، وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ أُمَّتِكُمْ كَذَّبَ بِهِ وَجَحَدَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، وَعِنْدَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ‏.‏

وَكُفْرُهُمْ بِهِ‏:‏ جُحُودُهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏ وَالْهَاءُ الَّتِي فِي ‏"‏بِه‏"‏ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلَتُ‏}‏‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏، بِالْقُرْآنِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ بِكِتَابِكُمْ‏.‏ وَيَتَأَوَّلُ أَنَّ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ بِكِتَابِهِمْ، لِأَنَّ فِي كِتَابِهِمُ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مِنْ ظَاهِرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ بِعِيدَانِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِهَا بِالْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏}‏‏.‏ وَمَعْقُولٌ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْقُرْآنُ لَا مُحَمَّدٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ، لَا تَنْزِيلٌ مُنْزَلٌ، وَالْمُنْزَلُ هُوَ الْكِتَابُ‏.‏ ثُمَّ نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يَكْفُرُ بِالَّذِي أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَجْرِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ ظَاهِرٌ، فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِذِكْرِهِ مَكْنِيًّا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏- وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَالٍ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُذْكَرَ مَكْنِيُّ اسْمٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ظَاهِرٌ فِي الْكَلَامِ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَائِدَ مِنَ الذَّكَرِ فِي ‏"‏بِه‏"‏ عَلَى ‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لِمَا مَعَكُمْ‏"‏‏.‏ لِأَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا ظَاهِرَ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ وَالتَّنْزِيلِ، لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ الْقُرْآنُ‏.‏ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنِ الْكُفْرِ بِهِ فِي آخِرِهَا هُوَ الْقُرْآنُ‏.‏ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِالْإِيمَانِ بِهِ غَيْرَ الْمَنْهِيِّ عَنِ الْكُفْرِ بِهِ، فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَآيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَذَلِكَ غَيْرُ الْأَشْهُرِ الْأَظْهَرِ فِي الْكَلَامِ‏.‏ هَذَا مَعَ بُعْدِ مَعْنَاهُ فِي التَّأْوِيلِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏، وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏:‏

فَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا‏.‏ قَالَ‏:‏ هُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ‏:‏ يَا ابْنَ آدَمَ، عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَأْخُذُوا طَمَعًا قَلِيلًا وَتَكْتُمُوا اسْمَ اللَّهِ، وَذَلِكَ الثَّمَنُ هُوَ الطَّمَعُ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا‏:‏ لَا تَبِيعُوا مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِكِتَابِي وَآيَاتِهِ بِثَمَنٍ خَسِيسٍ وَعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ‏.‏ وَبَيْعُهُمْ إِيَّاهُ- تَرْكُهُمْ إِبَانَةَ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِيهِ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ- بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ رِضَاهُمْ بِالرِّيَاسَةِ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَأَخْذُهُمُ الْأَجْرَ مِمَّنْ بَيَّنُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنُوا لَهُ مِنْهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا بِمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ لَا تَبِيعُوا ‏"‏، لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِ اللَّهِ بَائِعُ الْآيَاتِ بِالثَّمَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مَبِيعٌ لِصَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ بِهِ مُشْتَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، بَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَبْتَغُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَجْرًا‏.‏ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَهْيُهُ عَنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى تَبْيِينِهِ، هُوَ النَّهْيُ عَنْ شِرَاءِ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ فَاتَّقَوْنِ- فِي بَيْعِكُمْ آيَاتِي بِالْخَسِيسِ مِنَ الثَّمَنِ، وَشِرَائِكُمْ بِهَا الْقَلِيلَ مِنَ الْعَرَضِ، وَكُفْرِكُمْ بِمَا أَنْزَلَتُ عَلَى رَسُولِي وَجُحُودِكُمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّي- أَنْ أُحِلَّ بِكُمْ مَا أَحْلَلْتُ بِأَسْلَافِكُمَ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ وَالنَّقِمَاتِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا‏}‏، لَا تَخْلِطُوا‏.‏ وَاللَّبْسُ هُوَ الْخَلْطُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ لَبَسْتُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ لَبْسًا‏:‏ إِذَا خَلَطْتُهُ عَلَيْهِ‏.‏

كَمَا‏:‏ حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 9‏]‏ يَقُولُ‏:‏ لَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ‏:‏

لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي *** غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ لَبَسْنَ ‏"‏، خَلَطْنَ‏.‏ وَأَمَّا اللُّبْسُ فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ لَبِسْتُهُ أَلْبَسُهُ لُبْسًا وَمَلْبَسًا، وَذَلِكَ الْكُسْوَةُ يَكْتَسِيهَا فَيَلْبَسُهَا‏.‏ وَمِنَ اللُّبْسِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ‏:‏

لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ *** حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ وَاشْتَعَلَا

وَمِنَ اللَّبْسِ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 9‏]‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ وَكَيْفَ كَانُوا يُلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ كُفَّارٌ‏؟‏ وَأَيُّ حَقٍّ كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ مِنْهُمْ يُظْهِرُونَ التَّصْدِيقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَبْطِنُونَ الْكُفْرَ بِهِ‏.‏ وَكَانَ عُظْمُهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ مُحَمَّدٌ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِنَا‏.‏ فَكَانَ لَبْسُ الْمُنَافِقِ مِنْهُمَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، إِظْهَارَهُ الْحَقَّ بِلِسَانِهِ، وَإِقْرَارَهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ جِهَارًا، وَخَلْطَهُ ذَلِكَ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَقِّ بِمَا يَسْتَبْطِنُهُ‏.‏ وَكَانَ لَبْسُ الْمُقِرِّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِهِمْ، الْجَاحِدِ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، إِقْرَارَهُ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَجُحُودَهُ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً‏.‏ فَذَلِكَ خَلْطُهُمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلَبْسُهُمْ إِيَّاهُ بِهِ‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَا تَخْلِطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَأَدُّوا النَّصِيحَةَ لِعِبَادِ اللَّهِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏، الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ بِالْإِسْلَامِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحَقُّ، التَّوْرَاةُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، وَالْبَاطِلُ‏:‏ الَّذِي كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏، وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكْتُمُوا الْحَقَّ، كَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏.‏ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ‏:‏ وَلَا تَلْبَسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ‏.‏ وَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَتَكْتُمُوا‏"‏ عِنْدَ ذَلِكَ مَجْزُومًا بِمَا جُزِمَ بِهِ ‏"‏ تَلْبِسُوا ‏"‏، عَطْفًا عَلَيْهِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَلْبَسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏ خَبَرًا مِنْهُ عَنْهُمْ بِكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَتَكْتُمُوا ‏"‏حِينَئِذٍ مَنْصُوبًا لِانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَا تَلْبَسُوا ‏"‏نَهْيًا، وَقَوْلُهُ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏ خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏تَلْبِسُوا‏"‏ مِنَ الْحَرْفِ الْجَازِمِ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ صَرْفًا‏.‏ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إَِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

فَنُصْبُ ‏"‏تَأْتِي‏"‏ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَتَكْتُمُوا ‏"‏، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ‏:‏ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَلَا تَأْتِ مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ لَا تَنْهَ عَنْ خَلْقِ وَأَنْتَ تَأْتِي مِثْلَهُ، فَكَانَ الْأَوَّلُ نَهْيًا، وَالثَّانِي خَبَرًا، فَنَصَبَ الْخَبَرَ إِذْ عَطَفَهُ عَلَى غَيْرِ شَكْلِهِ‏.‏

فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُهُمَا، فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏، أَيْ وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ‏.‏‏.‏

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْهُمَا، فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْحَقَّ الَّذِي كَتَمُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ، فَهُوَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَكْتُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحَقُّ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ تَكْتُمُونَ مُحَمَّدًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا‏:‏ وَلَا تَخْلِطُوا عَلَى النَّاسِ- أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَتَزْعُمُوا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى بَعْضِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ تُنَافِقُوا فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ الْأُمَمِ غَيْرِكُمْ، فَتَخْلِطُوا بِذَلِكَ الصِّدْقِ بِالْكَذِبِ، وَتَكْتُمُوا بِهِ مَا تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُ رَسُولِي إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولِي، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَيْكُمْ فَمِنْ عِنْدِي، وَتَعْرِفُونَ أَنَّ مِنْ عَهْدِي- الَّذِي أَخَذَتْ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ- الْإِيمَانَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّصْدِيقَ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ ذُكِرَ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَإِيتَاءِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ مَعَهُمْ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا خَضَعُوا‏.‏

كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثْنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَرِيضَتَانِ وَاجَبَتَانِ، فَأَدُّوهُمَا إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ‏.‏

أَمَّا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ، فَهُوَ أَدَاءُ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ‏.‏ وَأَصْلُ الزَّكَاةِ، نَمَاءُ الْمَالِ وَتَثْمِيرُهُ وَزِيَادَتُهُ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ‏:‏ زَكَا الزَّرْعُ، إِذَا كَثُرَ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ‏.‏ وَزَكَتِ النَّفَقَةُ، إِذَا كَثُرَتْ‏.‏ وَقِيلَ زَكَا الْفَرْدُ، إِذَا صَارَ زَوْجًا بِزِيَادَةِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ بِهِ شَفْعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

كَانُوا خَسًا أَوْ زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ *** لَمْ يُخْلَقُوا، وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِجُ

وَقَالَ آخَرُ‏:‏

فَلَا خَسًا عَدِيدُهُ وَلَا زَكَا *** كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ السَّفَا شَوْكُ الْبُهْمَى، وَالْبُهْمَى الَّذِي يَكُونُ مُدَوَّرًا فِي السُّلَّاءِ‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَلَا زَكَا ‏"‏، لَمْ يُصَيِّرْهُمْ شَفْعًا مِنْ وَتْرٍ، بِحُدُوثِهِ فِيهِمْ‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ لِلزَّكَاةِ زَكَاةٌ، وَهِيَ مَالٌ يَخْرُجُ مِنْ مَالٍ، لِتَثْمِيرِ اللَّهِ- بِإِخْرَاجِهَا مِمَّا أُخْرِجَتْ مِنْهُ- مَا بَقِيَ عِنْدَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِهِ‏.‏ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ زَكَاةٌ، لِأَنَّهَا تَطْهِيرٌ لِمَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ، وَتَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَظْلَمَةٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 74‏]‏، يَعْنِي بَرِيئَةً مِنَ الذُّنُوبِ طَاهِرَةً‏.‏ وَكَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ‏:‏ هُوَ عَدْلٌ زَكِيٌّ- لِذَلِكَ الْمَعْنَى‏.‏ وَهَذَا الْوَجْهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ- فِي تَأْوِيلِ زَكَاةِ الْمَالِ- مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَقْبُولًا فِي تَأْوِيلِهَا‏.‏

وَإِيتَاؤُهَا‏:‏ إِعْطَاؤُهَا أَهْلَهَا‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ الرُّكُوعِ، فَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ رَكَعَ فُلَانٌ لِكَذَا وَكَذَا، إِذَا خَضَعَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

بِيعَتْ بِكَسْرِ لَئِيمٍ وَاسْتَغَاثَ بِهَا *** مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَ مَا رَكَعَا

يَعْنِي‏:‏ بَعْدَ مَا خَضَعَ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ وَالْحَاجَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِمَنْ ذَكَرَ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُنَافِقِيهَا- بِالْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَبِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالدُّخُولِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَنَهْيٌ مِنْهُ لَهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا قَدْ عَلِمُوهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَظَاهُرِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، بِمَا قَدْ وَصَفْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَبَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ، وَبَعْدَ تَذْكِيرِهِمْ نِعَمَهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَسْلَافِهِمْ تَعَطُّفًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِبْلَاغًا فِي الْمَعْذِرَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الْبِرِّ الَّذِي كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ تُسَمَّى ‏"‏بِرًّا‏"‏‏.‏ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ أَيْ تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعُهْدَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ‏:‏ أَيْ وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي، وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي، وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِتَقْوَاهُ وَهُمْ يَعْصُونَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِتَقْوَاهُ وَبِالْبِرِّ وَيُخَالِفُونَ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ‏}‏ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَيَدَعُونَ الْعَمَلَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ النَّاسَ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ أَمَرَ بِخَيْرٍ فَلْيَكُنْ أَشَدَّ النَّاسِ فِيهِ مُسَارَعَةً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَانَ إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَسْأَلُهُمْ مَا لَيْسَ فِيهِ حَقٌ وَلَا رِشْوَةٌ وَلَا شَيْءٌ، أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ‏:‏ لَا يَفَقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَجَمِيعُ الَّذِي قَالَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ ‏"‏الْبِر‏"‏ الَّذِي كَانَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِمَا لِلَّهِ فِيهِ رِضًا مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ، وَيُخَالِفُونَ مَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ بِأَفْعَالِهِمْ‏.‏

فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ إِذًا‏:‏ أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ تَعْصِيهِ‏؟‏ فَهَلَّا تَأْمُرُونَهَا بِمَا تَأْمُرُونَ بِهِ النَّاسَ مِنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ‏؟‏ مُعَيِّرُهُمْ بِذَلِكَ، وَمُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ مَا أَتَوْا بِهِ‏.‏

وَمَعْنَى ‏"‏نِسْيَانِهِمْ أَنْفُسَهُم‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَظِيرُ النِّسْيَانِ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 67‏]‏ بِمَعْنَى‏:‏ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ ثَوَابِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَتْلُونَ‏}‏‏:‏ تَدْرُسُونَ وَتَقْرَءُونَ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَدْرُسُونَ الْكِتَابَ بِذَلِكَ‏.‏ وَيَعْنِي بِالْكِتَابِ‏:‏ التَّوْرَاةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ أَفَلَا تَفْقَهُونَ وَتَفْهَمُونَ قُبْحَ مَا تَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَتِكُمْ رَبَّكُمُ الَّتِي تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِخِلَافِهَا وَتَنْهَوْنَهُمْ عَنْ رُكُوبِهَا وَأَنْتُمْ رَاكِبُوهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، مِثْلُ الَّذِي عَلَى مَنْ تَأْمُرُونَهُ بِاتِّبَاعِهِ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَفَلَا تَفْهَمُونَ‏؟‏ فَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الْقَبِيحِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْأَمْرِ أَحْبَارِ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَهُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِنَا‏!‏ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ‏}‏‏:‏ اسْتَعِينُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِي الَّذِي عَاهَدْتُمُونِي فِي كِتَابِكُمْ- مِنْ طَاعَتِي وَاتِّبَاعِ أَمْرِي، وَتَرْكِ مَا تَهْوَوْنَهُ مِنَ الرِّيَاسَةِ وَحُبِّ الدُّنْيَا إِلَى مَا تَكْرَهُونَهُ مِنَ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِي، وَاتِّبَاعِ رَسُولِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّمَعْنَى ‏"‏الصَّبْرِ ‏"‏فِي قوله تعالى واستعينوا بالصبر فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الصَّوْمُ، وَ‏"‏ الصَّوْم‏"‏ بَعْضُ مَعَانِي ‏"‏الصَّبْرِ‏"‏‏.‏ وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا كَرِهَتْهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرْكِ مَعَاصِيهِ‏.‏ وَأَصْلُ الصَّبْرِ‏:‏ مَنْعُ النَّفْسِ مَحَابَّهَا، وَكَفُّهَا عَنْ هَوَاهَا؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلصَّابِرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ‏:‏ صَابِرٌ، لِكَفِّهِ نَفْسَهُ عَنِ الْجَزَعِ؛ وَقِيلَ لِشَهْرِ رَمَضَان‏"‏ شَهْرُ الصَّبْرِ‏"‏، لِصَبْرِ صَائِمِيهِ عَنِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ نَهَارًا، وَصَبْرُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ‏:‏ حَبْسُهُ لَهُمْ، وَكَفُّهُ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، كَمَا تُصَبِّرُ الرَّجُلَ الْمُسِيءَ لِلْقَتْلِ فَتَحْبِسُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْتُلَهُ‏.‏ وَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ قَتَلَ فُلَانٌ فُلَانَا صَبْرًا، يَعْنِي بِهِ‏:‏ حَبَسَهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَهُ، فَالْمَقْتُولُ ‏"‏مَصْبُورٌ‏"‏، وَالْقَاتِل‏"‏ صَابِرٌ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهَا فِيمَا مَضَى‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ قَدْ عَلِمْنَا مَعْنَى الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَامَعْنَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرْكِ مَعَاصِيهِ، وَالتَّعَرِّي عَنِ الرِّيَاسَةِ، وَتَرَكِ الدُّنْيَا‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ، الدَّاعِيَةُ آيَاتُهُ إِلَى رَفْضِ الدُّنْيَا وَهَجْرِ نَعِيمِهَا، الْمُسَلِّيَةُ النُّفُوسَ عَنْ زِينَتِهَا وَغُرُورِهَا، الْمُذَكِّرَةُ الْآخِرَةَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا‏.‏ فَفِي الِاعْتِبَارِ بِهَا الْمَعُونَةُ لِأَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْجِدِّ فِيهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمَرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ رِتَاقٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي قُدَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْيَمَانِ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا حَزَبَهُ أَمَرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ‏)‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخُو حُذَيْفَةَ، قَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ ‏(‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏(‏رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏اشكمت درد‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمَ، قَالَ‏:‏ قُمْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شِفَاء‏)‏‏.‏

فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ وَصَفَ أَمْرَهُمْ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَجْعَلُوا مَفْزَعَهُمْ فِي الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَاهَدُوهُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏فَاصْبِرْ‏)‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 130‏]‏ فَأَمَرَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي نَوَائِبِهِ بِالْفَزَعِ إِلَى الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏.‏ وَقَدْ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ‏:‏ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمٌ، وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ‏.‏ ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ، فَأَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشِي إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ قَالَ يَقُولُ‏:‏ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُمَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُمَا مَعُونَتَانِ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَتَدْعُوَنَا إِلَى أَمْرٍ كَبِيرٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ إِلَى الصَّلَاةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّهَا‏)‏، وَإِنَّ الصَّلَاةَ، فَ ‏"‏الْهَاءُ وَالْأَلِف‏"‏ فِي ‏"‏وَإِنَّهَا‏"‏ عَائِدَتَانِ عَلَى ‏"‏الصَّلَاةِ‏"‏‏.‏ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّهَا‏)‏ بِمَعْنَى‏:‏ إِنَّ إِجَابَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَجْرِ لِذَلِكَ بِلَفْظِ الْإِجَابَةِ ذِكْرٌ فَتُجْعَل‏"‏ الْهَاءُ وَالْأَلِفُ ‏"‏ كِنَايَةً عَنْهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْكَلَامِ إِلَى بَاطِنٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَكَبِيرَةٌ‏}‏‏:‏ لَشَدِيدَةٌ ثَقِيلَةٌ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ يَزِيدَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏قَالَ‏:‏ إِنَّهَا لَثَقِيلَةٌ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏‏:‏ إِلَّا عَلَى الْخَاضِعِينَ لِطَاعَتِهِ، الْخَائِفِينَ سَطَوَاتِهِ، الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي الْخَائِفِينَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ الْخُشُوعُ‏:‏ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ لِلَّهِ‏.‏ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 45‏]‏ قَالَ‏:‏ قَدْ أَذَلَّهُمُ الْخَوْفُ الَّذِي نَـزَلَ بِهِمْ، وَخَشَعُوا لَهُ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏ الْخُشُوعِ ‏"‏‏:‏ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ وَالِاسْتِكَانَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

لَمَّـا أَتَـى خَـبَرُ الزُّبَـيْرِ تَـوَاضَعَتْ *** سُـورُ الْمَدِينَـةِ وَالْجِبَـالُ الْخُشَّـعُ

يَعْنِي‏:‏ وَالْجِبَالُ خُشَّعٌ مُتَذَلِّلَةٌ لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ بِفَقْدِهِ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ وَاسْتَعِينُوا أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَفِّهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، الْمُقَرِّبَةِ مِنْ مَرَاضِي اللَّهِ، الْعَظِيمَةِ إِقَامَتُهَا إِلَّا عَلَى الْمُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ، الْمُسْتَكِينِينَ لِطَاعَتِهِ، الْمُتَذَلِّلِينَ مِنْ مَخَافَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّنْ قَدْ وَصَفَهُ بِالْخُشُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، أَنَّهُ ‏"‏يَظُن‏"‏ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، وَالظَّنُّ‏:‏ شَكٌّ، وَالشَّاكُّ فِي لِقَاءِ اللَّهِ عِنْدَكَ بِاللَّهِ كَافِرٌ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُسَمِّي الْيَقِينَ ‏"‏ظَنًّا‏"‏، وَالشَّك‏"‏ ظَنًّا‏"‏، نَظِيرَ تَسْمِيَتِهِمُ الظُّلْمَةَ ‏"‏سَدْفَةً‏"‏، وَالضِّيَاء‏"‏ سَدْفَةً‏"‏، وَالْمُغِيثَ ‏"‏صَارِخًا‏"‏، وَالْمُسْتَغِيث‏"‏ صَارِخًا‏"‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُسَمِّي بِهَا الشَّيْءَ وَضِدَّهُ‏.‏ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ الْيَقِينُ، قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ‏:‏

فَقُلْـتُ لَهُـمْ ظُنُّـوا بِـأَلْفَيْ مُدَجَّـجٍ *** سُـرَاتُهُمْ فِـي الْفَارِسِـيِّ الْمَسْرَدِ

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ تَيَقَّنُوا أَلْفَيْ مُدَجَّجٍ تَأْتِيكُمْ‏.‏ وَقَوْلُ عَمِيرَةَ بْنِ طَارِقٍ‏:‏

بِـأَنْ تَغْـتَزُوا قَـوْمِي وَأَقْعُـدُ فِيكُـمْ *** وَأَجْـعَلُ مِنِّـي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمًا

يَعْنِي‏:‏ وَأَجْعَلُ مِنِّي الْيَقِينَ غَيْبًا مُرَجَّمًا‏.‏ وَالشَّوَاهِدُ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا عَلَى أَنَّ ‏"‏الظَّن‏"‏ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَفِيمَا ذَكَرْنَا لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ كِفَايَةٌ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا‏}‏ ‏[‏الْكَهْفِ‏:‏ 53‏]‏ وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ تَفْسِيرُ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏قَالَ‏:‏ إِنَّ الظَّنَّ هَاهُنَا يَقِينٌ‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ يَقِينٌ، ‏"‏إِنِّي ظَنَنْتُ‏"‏، ‏"‏وَظَنُّوا‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عِلْمٌ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ أَمَّا ‏"‏يَظُنُّون‏"‏ فَيَسْتَيْقِنُونَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَلَّاقُو رَبِّهِمْ، هِيَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏[‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 20‏]‏ يَقُولُ‏:‏ عَلِمَتُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَايِنُوا، فَكَانَ ظَنُّهُمْ يَقِينًا، وَلَيْسَ ظَنًّا فِي شَكٍّ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ إِنَّهُمْ مَلَّاقُو رَبِّهِمْ، فَأُضِيفَ ‏"‏الْمُلَاقُون‏"‏ إِلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ‏؟‏ وَإِذْ كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، فَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ الْإِضَافَةِ وَإِثْبَاتُ النُّونِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ النُّونُ وَتُضِيفُ، فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ مِنَ الْأَفْعَالِ، إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى ‏"‏فِعْلٍ‏"‏، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى‏"‏ يَفْعَلُ وَفَاعِلٍ‏"‏، فَشَأْنُهَا إِثْبَاتُ النُّونِ، وَتَرْكُ الْإِضَافَةِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَأَلْسُنِهَا فِي إِجَازَةِ إِضَافَةِ الِاسْمِ الْمَبْنِيِّ مِنْ ‏"‏فِعْلٍ وَيَفْعَلُ‏"‏، وَإِسْقَاطِ النُّونِ وَهُوَ بِمَعْنَى‏"‏ يَفْعَلُ وَفَاعِلٍ‏"‏، أَعْنِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَحَالِ الْفِعْلِ وَلَمَّا يَنْقَضِّ، فَلَا وَجْهَ لِمَسْأَلَةِ السَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ‏:‏ لِمَ قِيلَ‏؟‏ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُضِيفَ وَأُسْقِطَتِ النُّونُ‏.‏

فَقَالَ نَحْوِيُّو الْبَصْرَةِ‏:‏ أُسْقِطَتِ النُّونُ مِنْ‏:‏ ‏(‏مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏)‏ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فِي لَفْظِ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ فِي مَعْنَى ‏"‏يَفْعَل‏"‏ وَفِي مَعْنَى مَا لَمْ يَنْقَضِ اسْتِثْقَالًا لَهَا، وَهِيَ مُرَادَةٌ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏كُلُ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 185 الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 57‏]‏، وَكَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ‏}‏ ‏[‏الْقَمَرِ‏:‏ 27‏]‏ وَلَمَّا يُرْسِلْهَا بَعْدُ؛ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

هَـلْ أَنْـتَ بَـاعِثُ دِينَـارٍ لِحَاجَتِنَـا *** أَوْ عَبْـدَ رَبٍّ أَخَـا عَـوْنِ بْنِ مِخْرَاقٍ‏؟‏

فَأَضَافَ ‏"‏بَاعِثًا‏"‏ إِلَى ‏"‏الدِّينَارِ‏"‏، وَلَمَّا يَبْعَثُ، وَنَصْب‏"‏ عَبَدَ رَبٍّ ‏"‏ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ دِينَارٍ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَإِنْ خُفِضَ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

الْحَـافِظُو عَـوْرَةِ الْعَشِـيرَةِ، لَا *** يَـأْتِيهِمْ مِنْ وَرَائِـهِمْ نُطَـفُ

بِنَصْبِ ‏"‏الْعَوْرَة‏"‏ وَخَفْضِهَا، فَالْخَفْضُ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالنَّصْبُ عَلَى حَذْفِ النُّونِ اسْتِثْقَالًا وَهِيَ مُرَادَةٌ‏.‏ وَهَذَا قَوْلُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏.‏

وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ جَائِزٌ فِي ‏(‏مُلَاقُو‏)‏ الْإِضَافَةُ، وَهِيَ فِي مَعْنَى يَلْقَوْنَ، وَإِسْقَاطُ النُّونِ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي لَفْظِ الْأَسْمَاءِ، فَلَهُ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْأَسْمَاءِ حَظُّ الْأَسْمَاءِ‏.‏ وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ اسْمٍ كَانَ لَهُ نَظِيرٌ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِذَا أُثْبِتَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ النُّونُ وَتُرِكَتِ الْإِضَافَةُ، فَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ لِأَنَّ لَهُ مَعْنًى يَفْعَلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلَّفْظِ، وَتَرَكُ الْإِضَافَةِ لِلْمَعْنَى‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا‏:‏ وَاسْتَعِينُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِي بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ لِكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَائِفِينَ عِقَابِي، الْمُتَوَاضِعِينَ لِأَمْرِي، الْمُوقِنِينَ بِلِقَائِي وَالرُّجُوعِ إِلَيَّ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ‏.‏

وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ كَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُوقِنٍ بِمُعَادٍ وَلَا مُصَدِّقٍ بِمَرْجِعٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، فَالصَّلَاةُ عِنْدَهُ عَنَاءٌ وَضَلَالٌ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجُو بِإِقَامَتِهَا إِدْرَاكَ نَفْعٍ وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ، وَحَقٌّ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَبِيرَةً، وَإِقَامَتُهَا عَلَيْهِ ثَقِيلَةً، وَلَهُ فَادِحَةً‏.‏

وَإِنَّمَا خَفَّتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِلِقَاءِ اللَّهِ، الرَّاجِينَ عَلَيْهَا جَزِيلَ ثَوَابِهِ، الْخَائِفِينَ بِتَضْيِيعِهَا أَلِيمَ عِقَابِهِ، لِمَا يَرْجُونَ بِإِقَامَتِهَا فِي مَعَادِهِمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَلِمَا يَحْذَرُونَ بِتَضْيِيعِهَا مَا أَوْعَدَ مُضَيِّعَهَا‏.‏ فَأَمْرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مُقِيمِيهَا الرَّاجِينَ ثَوَابَهَا إِذَا كَانُوا أَهْلَ يَقِينٍ بِأَنَّهُمْ إِلَى اللَّهِ رَاجِعُونَ، وَإِيَّاهُ فِي الْقِيَامَةِ مُلَاقُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ‏"‏ الْهَاءُ وَالْمِيمُ ‏"‏اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَنَّهُمْ‏)‏ مِنْ ذِكْرِ الْخَاشِعِينَ، وَ‏"‏ الْهَاء‏"‏ فِي ‏"‏إِلَيْه‏"‏ مَنْ ذَكَرِ الرَّبِّ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلِمَةِ‏:‏ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الْمُوقِنِينَ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏.‏

ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ ‏"‏الرُّجُوع‏"‏ الَّذِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ، بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَسْتَيْقِنُونَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِمَوْتِهِمْ‏.‏

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ، الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَهَا‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ نَشْرِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ مَمَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ تَأْوِيلِهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي‏}‏‏.‏ وَقَدْ ذَكَرَتْهُ هُنَالِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَكَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنَ الائِهِ وَنِعَمِهِ عِنْدَهُمْ‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏‏:‏ أَنِّي فَضَّلْتُ أَسْلَافَكُمْ، فَنَسَبَ نِعَمَهُ عَلَى آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ إِلَى أَنَّهَا نِعَمٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَتْ مَآثِرُ الْآبَاءِ مَآثِرَ لِلْأَبْنَاءِ، وَالنِّعَمُ عِنْدَ الْآبَاءِ نِعَمًا عِنْدَ الْأَبْنَاءِ، لِكَوْنِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ، وَأَخْرَجَ جَلَّ ذِكْرُهُقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏مَخْرَجَ الْعُمُومِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ خُصُوصًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ وَإِنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى عَالَمِ مَنْ كُنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ وَفِي زَمَانِهِ‏.‏ كَالَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ- وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ- عَنْ قَتَادَةَ، ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَضَّلَهُمْ عَلَى عَالَمِ ذَلِكَ الزَّمَانِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِمَا أُعْطُوا مِنَ الْمُلْكِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ، عَلَى عَالَمِ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ عَالَمًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلَتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَالَمُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ‏.‏ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الدُّخَانِ‏:‏ 32‏]‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمُ الْقِرَدَةُ، وَهُمْ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 110‏]‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ الَّذِي وَصَفْنَا مَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ جَمِيعًا، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «أَلَّا إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمَّةً»- قَالَ يَعْقُوبُ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ أَنْتُمْ آخِرُهَا- ‏.‏ وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ ‏"‏ أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ‏"‏‏.‏

فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُونُوا مُفَضَّلِينَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 16‏]‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ تَأْوِيلِهِ‏.‏ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى بَيَانِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏الْعَالَمِينَ‏)‏ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏‏:‏ وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏.‏ وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ‏:‏ وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

قَـدْ صَبَّحَـتْ، صَبَّحَهَـا السَّـلَامُ *** بِكَبِـدٍ خَالَطَهَـا سَـنَامُ

فِي سَاعَةٍ يُحِبُّهَا الطَّعَامُ

وَهُوَ يَعْنِي‏:‏ يُحَبُّ فِيهَا الطَّعَامُ‏.‏ فَحُذِفَتْ ‏"‏الْهَاء‏"‏ الرَّاجِعَةُ عَلَى ‏"‏ الْيَوْمِ‏"‏، إِذْ فِيهِ اجْتِزَاءٌ- بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ‏}‏ الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْهُ- عَمَّا حُذِفَ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا ‏"‏الْهَاءَ‏"‏‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ إِلَّا‏"‏ فِيهِ‏"‏‏.‏ وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى جَوَازِ حَذْفِ كُلِّ مَا دَلَّ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ فَإِنَّهُ تَحْذِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ- عُقُوبَتَهُ أَنْ تَحُلَّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا تَجْزِي فِيهِ نَفَّسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَلَا يَجْزِي فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ لَا تَجْزِي نَفْس‏"‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ لَا تُغْنِي‏:‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْس‏}‏ أَمَّا ‏"‏تَجْزِي‏"‏‏:‏ فَتُغْنِي‏.‏

أَصْلُ ‏"‏الْجَزَاء‏"‏- فِي كَلَامِ الْعَرَبِ- ‏:‏ الْقَضَاءُ وَالتَّعْوِيضُ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ جَزَيْتُهُ قَرْضَهُ وَدَيْنَهُ أَجْزِيهِ جَزَاءً‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ قَضَيْتُهُ دَيْنَهُ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ‏:‏ ‏"‏ جَزَى اللَّهُ فَلَانَا عَنِّي خَيْرًا أَوْ شَرًّا‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَثَابَهُ عَنِّي وَقَضَاهُ عَنِّي مَا لَزِمَنِي لَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي سَلَفَ مِنْهُ إِلَيَّ‏.‏ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ‏:‏ يُقَالُ أَجْزَيْتُ عَنْهُ كَذَا ‏"‏‏:‏ إِذَا أَعَنْتُهُ عَلَيْهِ، وَجَزَيْتُ عَنْكَ فَلَانَا‏:‏ إِذَا كَافَأْتُهُ

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ ‏"‏جَزَيْتُ عَنْك‏"‏ قَضَيْتُ عَنْكَ‏.‏ وَ‏"‏ أَجْزَيْتُ ‏"‏كَفَيْتُ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ جَزَتْ عَنْكَ شَاةٌ وَأَجْزَتْ، وَجَزَى عَنْكَ دِرْهَمٌ وَأَجْزَى، وَلَا تُجْزِي عَنْكَ شَاةٌ وَلَا تَجْزِي ‏"‏بِمَعْنَى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَن‏"‏ جَزَتْ عَنْكَ، وَلَا تُجْزِي عَنْكَ ‏"‏مِنْ لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَن‏"‏ أَجَزَأَ وَتُجْزِئُ ‏"‏مِنْ لُغَةِ غَيْرِهِمْ‏.‏ وَزَعَمُوا أَنَّ تَمِيمًا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏ أَجْزَأَتْ عَنْكَ شَاةٌ، وَهِيَ تُجْزِئُ

عَنْكَ‏"‏‏.‏ وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ ‏"‏جَزَى‏"‏ بِلَا هَمْزٍ‏:‏ قَضَى، وَ‏"‏ أَجْزَأَ ‏"‏ بِالْهَمْزِ‏:‏ كَافَأَ فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَقْضِي نَفَّسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا تُغْنِي عَنْهَا غِنًى‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا مَعْنَى‏:‏ لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، وَلَا تُغْنِي عَنْهَا غِنًى‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هُوَ أَنَّ أَحَدَنَا الْيَوْمَ رُبَّمَا قَضَى عَنْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ ذِي الصَّدَاقَةِ وَالْقَرَابَةِ دَيْنَهُ‏.‏ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ فِيمَا أَتَتْنَا بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْهَا- يَسُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يَبْرُدَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ حَقٌّ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ فِي الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَنَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدَيُّ، قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ يَزِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِـرْضٍ- قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ، فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِم‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقَدِّمِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْفَرَوِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنَّمَا يَقْتَسِمُونَ هُنَالِكَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ قَادِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ هَاشِمُ بْنُ عِيسَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّهَا لَا تَقْضِي عَنْهَا شَيْئًا لَزِمَهَا لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَالِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا‏.‏ وَكَيْفَ يَقْضِي عَنْ غَيْرِهِ مَا لَزِمَهُ مَنْ كَانَ يَسُرُهُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ حَقٌّ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا يَتَجَافَى لَهُ عَنْهُ‏؟‏‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏‏:‏ لَا تَجْزِي مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مَكَانَهَا‏.‏

وَهَذَا قَوْلٌ يَشْهَدُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ‏:‏ مَا أَغْنَيْتَ عَنِّي شَيْئًا‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ مَا أَغْنَيْتَ مِنِّي أَنْ تَكُونَ مَكَانِي، بَلْ إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَجْزِي مِنْ شَيْءٍ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ لَا يَجْزِي هَذَا مِنْ هَذَا‏"‏، وَلَا يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ لَا يَجْزِي هَذَا مِنْ هَذَا شَيْئًا‏"‏‏.‏

فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ مَا قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ لَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ‏)‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ لَا تَجْزِي نَفْسٌ مِنْ نَفْسٍ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ لَا تَجْزِي نَفَّسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏"‏‏.‏ وَفِي صِحَّةِ التَّنْـزِيلِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ‏"‏ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَفَسَادِ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ ‏"‏الشَّفَاعَةُ ‏"‏تعريفها مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ‏:‏ ‏"‏ شَفَعَ لِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ شَفَاعَةً وَهُوَ طَلَبُهُ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلشَّفِيعِ ‏"‏شَفِيعٌ وَشَافِع‏"‏ لِأَنَّهُ ثَنَى الْمُسْتَشْفَعَ بِهِ، فَصَارَ بِهِ شَفْعًا فَكَانَ ذُو الْحَاجَةِ- قَبْلَ اسْتِشْفَاعِهِ بِهِ فِي حَاجَتِهِ- فَرْدًا، فَصَارَ صَاحِبُهُ لَهُ فِيهَا شَافِعًا، وَطَلَبُهُ فِيهِ وَفِي حَاجَتِهِ شَفَاعَةً‏.‏ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الشَّفِيعُ فِي الدَّارِ وَفِي الْأَرْضِ ‏"‏شَفِيعًا‏"‏ لِمَصِيرِ الْبَائِعِ بِهِ شَفْعًا‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا‏:‏ وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ حَقًّا لَزِمَهَا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا شَفَاعَةَ شَافِعٍ، فَيَتْرُكَ لَهَا مَا لَزِمَهَا مِنْ حَقٍّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَاطَبَ أَهْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَوْلَادُ أَنْبِيَائِهِ، وَسَيَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ آبَاؤُنَا‏.‏ فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ نَفْسًا لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا فِي الْقِيَامَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةُ أَحَدٍ فِيهَا حَتَّى يُسْتَوْفَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْهَا حَقُّهُ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ مُرَاجِمٍ- رَجُلٌ مِنْ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ- ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «إِنَّ الْجَمَّاءَ لَتَقْتَصُّ مِنَ الْقُرَنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَة»، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 47‏]‏ الْآيَةَ

فَآيَسَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ مِمَّا كَانُوا أَطْمَعُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ- مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ وَخِلَافِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ- بِشَفَاعَةِ آبَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ؛ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ نَافِعِهِمْ عِنْدَهُ إِلَّا التَّوْبَةَ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَالْإِنَابَةِ مِنْ ضَلَالِهِمْ، وَجَعَلَ مَا سَنَّ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِمَامًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مِنْهَاجِهِمْ لِئَلَّا يَطْمَعَ ذُو إِلْحَادٍ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ‏.‏

وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا عَامًّا فِي التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خَاصٌّ فِي التَّأْوِيلِ لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وَأَنَّهُ قَال‏:‏ « لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا»‏.‏

فَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ يَصْفَحُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ- بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ- عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عُقُوبَةِ إِجْرَامِهِمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ‏}‏ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ غَيْرَ تَائِبٍ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْإِطَالَةِ فِي الْقَوْلِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَنَسْتَقْصِي الْحِجَاجَ فِي ذَلِكَ، وَسَنَأْتِي عَلَى مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ‏"‏ الْعَدْلُ ‏"‏- فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ- ‏:‏ الْفِدْيَةُ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي فِدَاءٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ أَمَّا عَدْلٌ‏:‏ فَيَعْدِلُهَا مِنَ الْعَدْلِ، يَقُولُ‏:‏ لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبَا تَفْتَدِي بِهِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَوْ جَاءَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ‏:‏ الْفِدْيَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَوْ أَنَّ لَهَا مَلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا فِدَاءٌ قَالَ‏:‏ وَلَوْ جَاءَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي نَجِيحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ- مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ- ، قَالَ‏:‏ ‏(‏قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَدْلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْعَدْلُ‏:‏ الْفِدْيَة‏)‏‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْفِدْيَةِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْبَدَلِ مِنْهُ ‏"‏عَدْلٌ‏"‏، لِمُعَادَلَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ وَمَصِيرِهِ لَهُ مَثَلًا مِنْ وَجْهِ الْجَزَاءِ، لَا مِنْ وَجْهِ الْمُشَابَهَةِ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 70‏]‏ بِمَعْنَى‏:‏ وَإِنْ تَفِدْ كُلَّ فِدْيَةٍ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏ هَذَا عَدَلُهُ وَعَدِيلُهُ‏"‏‏.‏ وَأَمَّا ‏"‏الْعِدْل‏"‏ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَهُوَ مِثْلُ الْحِمْلِ الْمَحْمُولِ عَلَى الظَّهْرِ، يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ‏:‏ عِنْدِي غُلَامٌ عَدْلُ غُلَامِكَ، وَشَاةٌ عَدْلُ شَاتِك‏"‏- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- ، إِذَا كَانَ غُلَامٌ يَعْدِلُ غُلَامًا، وَشَاةٌ تَعْدِلُ شَاةً‏.‏ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَثَلٍ لِلشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ‏.‏ فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ عِنْدَهُ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ نُصِبَتِ الْعَيْنُ فَقِيلَ‏:‏ عِنْدِي عَدْلُ شَاتِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ‏"‏‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يُكَسَرُ الْعَيْنُ مِن‏"‏ الْعِدْلِ ‏"‏الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْفِدْيَةِ لِمُعَادَلَةِ مَا عَادَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ لِتَقَارُبِ مَعْنَى الْعِدْلِ وَالْعَدْلِ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا وَاحِد‏"‏ الْأَعْدَالِ ‏"‏فَلَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا‏"‏ عِدْلٌ ‏"‏ بِكَسْرِ الْعَيْنِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏‏.‏

وَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ‏)‏ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ، كَمَا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ شَافِعٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدْيَةٌ‏.‏ بَطَلَتْ هُنَالِكَ الْمُحَابَاةُ وَاضْمَحَلَّتِ الرُّشَى وَالشَّفَاعَاتُ، وَارْتَفَعَ بَيْنَ الْقَوْمِ التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ وَصَارَ الْحُكْمُ إِلَى الْعَدْلِ الْجَبَّارِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ لَدَيْهِ الشُّفَعَاءُ وَالنُّصَرَاءُ، فَيَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا وَبِالْحَسَنَةِ أَضْعَافَهَا‏.‏ وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ ‏]‏ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى‏:‏ ‏{‏لَا تَنَاصَرُونَ‏}‏، مَا‏:‏

حُدِّثْتُ بِهِ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏مَا لَكَمَ لَا تَنَاصَرُونَ‏)‏ مَا لَكَمَ لَا تُمَانِعُونَ مِنَّا‏؟‏ هَيْهَاتَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكُمُ الْيَوْمَ‏!‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ‏)‏‏:‏ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ نَصِيرٌ يَنْتَصِرُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُمْ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ بِالطَّلَبِ فِيهِمْ وَالشَّفَاعَةِ وَالْفِدْيَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَعْلَمَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ لَا فِدْيَةَ- لِمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْ خَلْقِهِ عُقُوبَتَهُ- ، وَلَا شَفَاعَةَ فِيهِ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْدُومٌ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ‏.‏